فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مرو إما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.
والسلف يقولون: اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عز وجل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره، فقد ثبت في الصحيح أنه سبحانه قال في جواب الملائكة: اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خلق الله تعالى أربعًا بيده: العرش وجنات عدن والقلم وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى: أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له: أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل: ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده.
وزعم الزمخشري أن {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث أن إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيمًا لأمر ربهم وإجلالًا لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقًا امتثالًا لأمري وإعظامًا لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلًا ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز، وأيضًا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه، وأيضًا جعل سجود الملائكة لآدم راجعًا إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل {أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذرًا من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذٍ لا تدل على الأفضلية مطلقًا حتى يلزم خرم مذهبه، ولعمري أن هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالًا لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالًا لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعامع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام، وقرئ {بِيَدَىَّ} بكسر الدال كمصرخي و{بِيَدَىَّ} على التوحيد {أَسْتَكْبَرْتَ} بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق {أَمْ كُنتَ مِنَ العالمين} أو كنت مستحقًا للعلو فائقًا فيه، وقيل المعنى أحدث لك الاستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول: باعتبار الاستحقاق وعدمه وعلى الثاني: باعتبار الحدوث والقدم ولذا قيل {كُنتَ مِنَ العالين} دون أنت من العالين، وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء كلهم ولم يؤمروا بالسجود وإنما المؤمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكبارًا أم تركته لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه، وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيدًا أم قتلته.
وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه.
وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل {أَسْتَكْبَرْتَ} بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله:
بسبع رمينا الجمر أم بثمان

واحتمل أن يكون الكلام إخبارًا وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به.
{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} قيل هو جواب عن الاستفهام الأخير يؤدي مؤدى أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الاستكبار سابقًا ولاحقًا في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل لكونه فائقًا إلا أنه لما لم يكن وافيًا بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} أما الأول: فظاهر وأما الثاني: فلأنه ذكر النوعين تنبيهًا على أن المماثلة كافية فضلًا عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر {خَلَقْتَنِي وَخَلَقْتَهُ} دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انضم إليها خيرية المادة، وفيه تنبيه على أن الآمر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر، واستلطفه صاحب الكشف ثم قال: ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق.
وجعل غير واحد قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} جوابًا أولًا وبالذات عن الاستفهام بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه، وقوله: {خَلَقْتَنِي} الخ تعليلًا لدعوى الخيرية.
وأيًّا ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضًا وفضل آدم عليه السلام في ذلك لا يخفى، وكأن خطأه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى: {قَالَ فاخرج مِنْهَا} والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها.
وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم إنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطنًا ومسكنًا ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم صاحبه في السوق أو غيره في دار: أخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل: إن المحاورة لم تكن في الجنة، وقيل: منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحسن بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيرًا من العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية، بناءً على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام كانت في الأرض، وقيل: أخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين، وكان عليه اللعنة يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنًا وأظلم بعد ما كان نورانيا.
وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليل للأمر بالخروج أي مطرود يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب كذا قالوا، وقد يقال: المراد برجيم ذليل فإن الرجم يستدعي الذلة، وهو أبعد من توهم التكرار مع الجملة بعد من الوجه الأول وأوفق لما في الأعراف من قوله تعالى: {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} أي إبعادي عن الرحمة، وفي الحجر: {اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35] فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضًا عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضًا من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته {إلى يَوْمِ الدين} يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم، لكن لا على أنها تنقطع يومئذٍ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] وقوله تعالى: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25].
{قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي أمهلني وأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام كأنه قال: إذا جعلتني رجيمًا فامهلني ولا تمتني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفًا بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال، ويمكن أن يكون قد عرفه عقلًا حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لابد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء.
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالانظار المقدر لهم أزلًا لا إنشاءً لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبًا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلًا حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول فالفاء ليست لربط نفس لإنظار بالاستنظار بل لربط الاخبار المؤكد به كما في قوله تعالى: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وقول الشافعي:
فإن ترحم فأنت لذلك أهل

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} قسم بسلطان الله عز وجل وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار أي فاقسم بعزتك {لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم.
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية.
وقرئ {المخلصين} على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)} موقع {إذْ قالَ ربُّكَ للملائِكة} صالح لأن يكون استئنافًا فإذا جعلنا النبأ بمعنى نبأ أهل المحشر الموعود به فيكون {إذْ قَالَ} متعلقًا بفعل محذوف تقديره: أُذكر، على أسلوب قوله: {وإنك لتلقى القرآن من لَدُن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارًا} [النمل: 6، 7]، ونظائِرِه.
فإمّا على جعل النبأ بمعنى نبأ خلق آدم فإن جملة {إذْ قال ربك} بدل من {إذْ يختصمون} [ص: 69] بدلَ بعض من كل لأن مجادلة الملأ الأعلى على كلا التفسيرين المتقدمين غير مقتصرة على قضية قصة إبليس، فقد روى الترمذي بسنده عن مالك بن يخامر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا طويلًا في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم «أنه رأى ربه تعالى فقال له: يا محمد فِيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري قالها ثلاثًا ثم قال بعد الثالثة بعد أن فتح الله عليه، قلت: في الكفارات قال: ما هن؟ قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد» وذكرَ أشياء من الأعمال الصالحة ولم يذكر اختصامهم في قضية خلق آدم.
وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقال عن البخاري: إنه أصح من غيره مما في معناه ولم يخرجه البخاري في صحيحه وليس في الحديث أنه تفسير لهذه الآية، وإنما جعله الترمذي في كتاب التفسير لأن ما ذُكر فيه بعضٌ مما يختصم فيه أهل الملأ الأعلى مراد به اختصام خاص هو ما جرى بينهم في قصة خلق آدم والمقاولة بين الله وبين الملائكة لأن قوله: {فَسَجَدَ الملائكةُ} يقتضي أنهم قالوا كلامًا دَل على أنهم أطاعوا الله فيما أمرهم به، بل ورد في سورة البقرة تفصيل ما جرى من قول الملائكة فهو يبيّن ما أجمل هنا وإن كان متأخرًا إذ المقصود من سوق القصة هنا الاتّعاظ بكبِرْ إبليس دون ما نشأ عن ذلك.
ويَجوز أن يكون {إذْ قالَ ربُّكَ} منصوبًا بفعل مقدر، أي اذكر إذ قال ربك للملائكة، وهو بناء على أن ضمير {هُو نبؤا عظيمٌ} [ص: 67] ليس ضمير شأن بل هو عائد إلى ما قبله وأن {إذْ يختصمون} [ص: 69] مراد به خصومة أهل النار.
وقصة خلق آدم تقدم ذكرها في سور كثيرة أشبهها بما هنا ما في سورة الحجر، وأبينُها ما في سورة البقرة.
ووقع في سورة الحِجْر (31) {إلا إبليس أبى} وفي هذه السورة {إلا إبليس استكْبَر} فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإِباية.
ووقعت هنا زيادة {وكانَ مِنَ الكافِرينَ} وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر (31) من قوله: {أن يكون مع الساجدين} الإِبَاية من الكون من الساجدين لله، أي المنزهي الله عن الظلم والجهل.
ووقع في هذه السورة {وكان من الكافرين} ومعناه أنه كان كافرًا ساعتئذٍ، أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبلُ كافرًا، ففعل {كان} الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت.
قال الزجّاج: كان جَارٍ على باب سائر الأفعال الماضية إلاّ أن فيه إخبارًا عن الحَالة فيما مضى، إذا قلت: كان زيد عالمًا، فقد أنبأتَ عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا، وإذا قلت: سيكون عالمًا فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال. اهـ.
وقد بدتْ من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان.
فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأُمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك مورِيًا زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره.
وهذا ناموس خُلُقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها.
وقد مُدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير، فقال عمر: هل أريتموه الأبيضَ والأصفر؟ يعني الدراهم والدنانير.